|
يقول النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأوا القرآن فإنه يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة"؛ فالقرآن سيدافع عنك يوم القيامة ويدافع عن الذي يقرأه ويعمل به كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم "يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تتقدمهم سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان يظللان عن صاحبهما".
قصة قابيل وهابيل:
قصة اليوم هي قصة تعمل على إصلاحك وإصلاح العلاقة بين أفراد العائلة فهي هي أول قصة للبشرية على الأرض فقصة اليوم وهي قصة قابيل وهابيل ابني آدم. ما هي الدروس في هذه القصة؟
ما هى رسالة الله تعالى في هذه القصة؟
هذه القصة في سورة المائدة من الآية 27 إلى الآية 32 تبدأ القصة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ... }(المائدة27) فكلمة (ابني آدم) تدل على أن هذه القصة موجهة لكل أولاد آدم فهي قصة عالمية ليست موجهة للمسلمين فقط بل لكل البشر؛ فهي رسالة عالمية لإصلاح البشر.
حيث إن رسالة القرآن رسالة عالمية فإن أول كلمة في القرآن {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الفاتحة2) وآخر كلمة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }(الناس1).
أما كلمة (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) تدل على أنها كالبيان أي اجمع أمتك يا محمد، واجمع البشرية يا محمد واقرأ عليهم هذه القصة، فهذه القصة مهمة جدا لحركة البشرية في الأرض فهي ليست حكايةً بل بيانًا.
أما كلمة (بِالْحَقِّ) فالموضوع خلاف شخصي بين أخوين؛ فقد اشتد الخلاف حتى قتل أحدهما الآخر.
إذا سمعنا القصة من أحدهما نجد أن وجهة نظره مختلفة عن الآخر ولكن كلمة (بِالْحَقِّ) تدل أنك ستسمع القصة دون أهواء ودون وجهات نظر، ولكن ستسمعها بالحق والتي تقوم بإصلاحك.
أهداف قصة قابيل وهابيل:
تعداد الأرض الآن 7 مليار ولكن إذا رجعنا لأول البشرية فقد كان عددهم ستة أشخاص: أب وأم وبنتان وولدان، فهي قصة قديمة لكنها مستمرة إلى اليوم.
هي قصة لكل أرحام تتقطع وقصة لكل عائلة تتشاجر، وقصة لأخوات تتفرق وينسى بعضهم بعضا بعد موت الأب، وقصة الدم الذي ملأ الأرض، وقصة النفس البشرية المليئة بالمشاكل دون علاجها، فهذه القصة ليست قديمة ولكنها قصة الماضي المستمر.
دروس هذه القصة ثلاثة:
1- عدم قطع الرحم.
2- حقن الدماء خاصة بين الأشقاء.
3- اعرف نفسك - أي تعرف على ذاتك.
أمراض النفس البشرية:
هناك ستة أمراض تصيب النفس البشرية وهي من أكبر أمراض النفس إذا وُجدت في أحد يدخل النار، أما أمراض الجسد فلا تدخل صاحبها النار. الهدف اليوم هو أن تعالج نفسك من هذه الأمراض وهي:
· الكبر.
· الحسد.
· البخل.
· الطمع.
· العند.
· الغضب.
يجب أن يعرف كل شخص نسبة هذه الأمراض في نفسه، وأن يعالجها وإذا لم يجد هذه الأمراض في نفسه فهي إذن نفسٌ جميلة تدخل الجنة بإذن الله.
كما يهتم كل شخص بجسمه ومظهره يجب أيضا معرفة نفسك هل هي نفس مطمئنة أم نفس لوامة أم نفس أمارة بالسوء؟ هل أنت تعالج نفسك؟ هدف القصة اليوم هو أن تعرف ذاتك وتعالج نفسك.
تكشف هذه القصة نفسك؛ لأنك تتعرف على قابيل وتعلم مشاكل النفس، وكذلك تتعرف على هابيل و تعرف النفس الحسنة فيجب أن تواجه نفسك، فهل أنت مثل قابيل أم هابيل؟
شخصيات القصة:
أبطال القصة ستة أشخاص: أب وأم وولدان وبنتان.
آدم هو أول أب وأول شخص يمارس تجربة الأبوة فهو لم يلد في الجنة بل في الأرض، وعاش في الجنة، وعاش في الأرض، وتألم من محنة النزول إلى الأرض.
أما الأم فهي حواء؛ أول أم تحمَل، وأول أم تعيش مشاعر الأمومة لم تعرف رجلا إلا آدم وكانت تحبه بشدة، وعاشت معه محنة النزول من الجنة.
والولدان هما قابيل وهابيل؛ فقابيل هو الأكبر، وهما أول أولاد آدم بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما من نفس تُقتل ظلما إلى يوم القيامة إلا كانت على ابن آدم الأول..." فهما أول أبناء آدم، وهما الفرق بين الخير والشر، والفرق بين القوة والحكمة.
أما البنتان فهما أول بنتين تعيشا مشاعر الفتيات، وأول بنتين تعيشا تجربة زواج.
مشاهد القصة:
كانت التجربة البشرية في مهدها، وهي أول تجربة للبشر كعائلة لكن لم يحكِ القرآن القصة بالتفصيل بل حكى ستة مشاهد:
1. مشهد القربان.
2. مشهد الخلاف.
3. مشهد القتل.
4. مشهد الندم.
5. مشهد الغراب.
6. مشهد الدفن.
فعلى الرغم من أن هناك الكثير من المشاعر والأحداث المؤثرة لكن القرآن لم يحكِها مثل؛ مشاعر حواء بعد فقد أولادها، ومشاعر آدم، ومشاعر البنات، فالقرآن يحكي المشاهد الأساسية ويترك بينها فجوات لكي تفكر، ويحترم عقلك ولكي يكون القرآن متجددا إلى يوم القيامة فالعقل غالٍ والخيال يملأ الفجوات لكن لا تقترب من المشاهد الأساسية.
الجذور التاريخية للقصة:
للقصة جذور تاريخية في السماء قبل نزول آدم وحواء على الأرض، فهي لم تبدأ من الأرض؛ هناك خمس لقطات حدثت في السماء لها علاقة بما فعل قابيل وهابيل، و فيها ستة أمراض: الكبر، والحسد، والبخل، والطمع، والعند، والغضب.
اللقطة الأولى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...} (البقرة30) فيفوز آدم بلقب خليفة أي أنت المسئول عن الإصلاح في الأرض، ومن هنا بدأ أول مرض، فإبليس حسد آدم بسبب هذا الشرف؛ ولأن الخلافة أعطاها لآدم وليس لإبليس، فبدأ أول مرض وهو الحسد.
اللقطة الثانية: يقول النبي صلى الله عليه وسلم "لما خلق الله الخلق قامت الرحم فتعلقت بالعرش وقالت يارب هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال لها الله أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك قالت رضيت يا رب قال فلك ذلك" فقد رأى آدم هذه اللقطة وعرف أهمية الرحم.
اللقطة الثالثة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إبليس...} (البقرة34) فسأله الله تعالى {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف 12)، فالمرض الثاني هو الكبر على الرغم من أن الطين أفضل من النار؛ لأن الطين كله نماء أما النار كلها طيش وإحراق، فهو لم يفكر ولم يتُب بل قال {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء62)؛ فالحنك يعني سألبسه اللجام مثل البهائم وأسَيره مثل البهائم، وأشجعهم على السرقة، وأكل المال الحرام والربا، والعلاقات غير الشرعية، وسائر المعاصي؛ فالمرض الثالث هو العند.
اللقطة الرابعة: شجرة الخلد {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} (طه120) هناك الكثير من الأشجار في الجنة ولكن الشيطان يوسوس له أن يأكل من هذه الشجرة، فيجعلك ترى غير المقدور عليه أفضل وأجمل مما في يديك فالمرض الرابع هو الطمع.
اللقطة الخامسة: توبة آدم، فالتوبة علاج الأمراض. عندما أكل آدم من الشجرة غضب الله فجرى آدم وحواء في الجنة فقال الله له "أفرارا مني يا آدم قال لا يارب ولكن حياءً" فهذا هو الفرق بين آدم وإبليس.
ونزل آدم من الجنة وهو يبكي على ذنبه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فبكى آدم على الرغم من توبة الله عليه فناداه الله
"يا آدم لا تجزع من قولي لك اخرج منها فلك خلقتها ولكن انزل إلى الأرض وابذر بذر التقوى فإذا اشتقت إلى الجنة تعالى أدخلك إياها، يا آدم إذا عصمتك وعصمت بنيك من الذنوب فعلى من أجود برحمتي وأنا الغفور الرحيم، يا آدم كنت تدخل علينا في الجنة دخول الملوك على الملوك واليوم تدخل علينا دخول العبيد على الملوك وذلك أحب إلينا، يا آدم ذنب تتذلل به إلينا أحب إلينا من طاعة تراءي بها علينا، يا آدم أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيح المتكبرين".
تعرف على ذاتك من خلال قصة قابيل وهابيل. يجب أن تعالج الأمراض الستة: الكبر، والحسد، والبخل، والطمع، والعند، والغضب.
نزول آدم وحواء على الأرض:
نزل آدم وحواء الأرض، فبدأ آدم في العمل وبذل الجهد فكان يحتاج إلى المأوى والأكل على عكس الجنة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} (طه118) ولكنه نزل الأرض التي فيها الحر والبرد، والشتاء والصيف، والجوع والشبع، والحزن والفرح، والنجاح والفشل، والوحوش والحيوانات، فكان يحتاج إلى من يساعده فبدأت غريزة الولد، وحملت حواء في توأم: ولد وبنت، فسمى الولد قابيل، ثم حملت في توأم آخر ولد وبنت، فسمى الولد هابيل، وبدأت أول عائلة، وبدأ آدم يمارس دوره كأب لعائلة، وبدأ يحكي لأولاده عن سجود الملائكة له، وأن الرحم معلقة بالعرش، وعن حسد إبليس له وأنه أكل من الشجرة هو وحواء، وحذرهم من إبليس.
وبدأ الأولاد تكبر وتظهر ملامحهم؛ فكان هابيل أقوى جسمانيا لكنه أكثر حنانا من قابيل ولطيف ورقيق أما قابيل فكان قاسيا وعنيفا وشريرا، لكن ما ذنبه في ذلك؟ يقول البعض إن الله قد خلقه هكذا وليس له ذنب، لكن ذلك خطأ؛ فهو الذي اختار.
عندما نزل آدم وأراد العيش كانت هناك مهنتان:
الزراعة والرعي، فبدأ بتوزيع المهام على الأولاد، قابيل يعمل في الزراعة، وهابيل يعمل في الرعي.
كان هابيل نشيطا ويريد أن يتعلم من أبيه الأسماء كلها الذي علمها الله له.
أما قابيل فكسلان لا يريد العمل ولا يريد بذل الجهد.
بعد فترة بدأ هابيل يتميز وتظهر قدراته ومواهبه وإمكاناته على عكس قابيل الذي لم تظهر إمكاناته ولم تظهر قدراته.
الله عادل، جميع الناس لديهم القدرة نفسها ولكن تختلف بعد ذلك عن طريق الاجتهاد و بذل الجهد، فبدلا من أن يركز قابيل على نفسه بدأ في التركيز على أخيه، فبدأ الحسد وهكذا تنشأ أمراض النفوس، وهذه أول رسالة للآباء والأمهات: إياك أن تترك ابنك للكسل.
كبر الأولاد ووصلوا إلى سن الزواج، وكان الشرع في ذلك الوقت هو ألا يتزوج أحد من توأمته لكن يتزوج من التوأم الآخر، فيتزوج قابيل من أخت هابيل، ويتزوج هابيل من أخت قابيل فبدأ الشيطان يلعب دوره مرة أخرى، فيجعلك ترى غير المقدور عليه أحلى مما في يديك، فقال لقابيل إن أختك أحلى فلا تتزوج أخت هابيل وبدأ الطمع، لذلك أمرنا الله تعالى بغض البصر.
هناك رسالة أخرى للآباء وهي ألا يعطي ابنه كل شيء يريده حتى لا يتعلم الطمع، كان عمر بن الخطاب يسير مع أحد التابعين في السوق، وكان كلما يرى شيئا يعجبه يقول إنه يريد أن يشتريه فقال له عمر"أوَ كلما اشتهيت اشتريت؟".
فماذا قال إبليس لقابيل؟
كان يعيب له في مواصفات الجمال لكي يلهي العين عن صفاتها كالحنان والرقة والوفاء.
هل أنت ملهي عن جمال المرأة الحقيقي؟ كان آدم يحاول مع ابنه لكي ينمي نفسه و مواهبه لكن قابيل كان عنيدا، فهل أنت عنيد مع أهلك؟ هل أنت متكبر؟ هل أنت حسود؟ هل أنت طماع؟
قربان قابيل وهابيل:
فكر آدم في فكرة وهي مسابقة بين الولدين - وهذه نصيحة للآباء إذا كان أحد الأبناء كسلان أن يحفزه بالمسابقات- فقال لهما آدم أن قدما قربان والله يختار ويحكم ويتقبل القربان الأجمل الذي بُذل فيه مجهود أكثر، لكن آدم ليس طرفا، وهذه نصيحة للآباء ألا يكونوا طرفا بين أولادهم.
يقول الله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ...} (المائدة27)، قدم قابيل أسوأ زرع عنده، فهو طماع وبخيل، أما هابيل فقدم أسمن عجلا عنده، فكان هناك منافسة وتحدٍّ، فقدما القرابين، هنا نصيحة إذا كنت تدخل على موضوع كبير كزواج، أو امتحان، أو عمل تقرب إلى الله بعمل يحبه كالصدقة، أو الذهاب للحج، أو عمرة، أوصيام، أو قيام، أو افعل أي شيء يحبه الله تعالى تتقرب به إليه.
أيضا، بمجرد أن قدّم قابيل وهابيل القرابين أوحى الله إلى آدم أنه تقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فعرفا النتيجة مباشرة أما نحن فستعرف نتائج أعمالنا يوم القيامة، وذلك لأن الله لو قال لنا في الحال نتيجة أعمالنا، وهل تقبلها أم لا؟
لزاد الحسد والغيرة، وذلك حتى نتعايش سويا في الدنيا ونمنع الحسد والغيرة بين الناس فهذه رحمة من الله تعالى.
هناك أربع نصائح للآباء:
1. لا تدع أبناءك للكسل.
2. اكتشف موهبة ابنك.
3. لا تبدأ بالعقوبة.
4. حفز أبناءك بالمسابقات.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ...} لم يفكر بل قال (لأقتلنك) بلسانه، فهو لم يقصدها في المرة الأولى لكنه قالها غضبا فقد تمكنت منه.
فهل أنت غضوب؟ ما مستوى الغضب عندك؟ ماذا تفعل عند الغضب هل تصيح؟ هل تكتم الغضب؟ أم تضرب؟ أم تهين؟ أم تشتم؟ أم تؤذي؟ فقد وصل قابيل لمرحلة خطيرة لأنه لم يعالج نفسه.
هل أنت أقرب إلى قابيل أم هابيل؟ يجب أن تعالج نفسك فالأخلاق تتغير بالمجاهدة.
إذا تخيلنا الحوار بين آدم وحواء سنجد آدم يقول لحواء إن ابنهما كرر الخطأ نفسه واستمع إلى الشيطان، وإذا تخيلنا الحوار بين حواء والبنات سنجدها تقول أنتن حضن العائلة، وإذا تخيلنا الحوار بين حواء وقابيل سنجدها تحذره من قطع الرحم؛ لذلك يجب علينا صلة الرحم، يقول الله تعالى في الحديث القدسي "أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت لها اسمًا من اسمي من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته".
يقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الرحمة لا تنزل على قوم بهم قاطع رحم"، وإذا تخيلنا الحوار بين آدم وهابيل سنجده ينصحه بالصبر على ما يفعله أخوه قابيل فقد كانت العائلة تحتاج إلى الحوارات، فأحيانا المشاكل تكون مفيدة وتكون المشكلة نقطة قوة وليست ضعفا لبدء الحوارات بين أفراد العائلة.
تخيلوا معنا إحساس آدم وحواء حين فقدا الاثنين؛ حين قتل قابيل هابيل هرب ولم يتب، وكانا في خضم الاستعداد لزواج أخت قابيل من هابيل والعكس، لا يوجد مصيبة في الدنيا أصعب من فقد الابن، وهي أول أم تفقد ابنها في التاريخ.
ماذا كان إحساس آدم؟ توجد في السيرة قصة حدثت في الإسراء والمعراج فيقول النبي: فصعدت إلى السماء الأولى، فطرق جبريل أبواب السماء الأولى:
فقيل: من؟
قال: جبريل.
قيل: ومن معك؟
قال: محمد ابن عبد الله.
فقيل: أو أرسل له؟
قال: نعم.
ففتح لنا، فدخلتُ فرأيتُ رجلا عن يمينه وشماله سواد (أناس كثيرون) ، ينظر عن يمينه فيضحك، وينظر عن شماله فيبكي.
فقلت: من هذا يا جبريل؟
فقال جبريل: هذا أبوك آدم، ينظر عن يمينه فيرى أبناءه الذين أطاعوه فيضحك، وينظر عن شماله فيرى أبناءه الذين ضاعوا فيبكي.
أستطيع تخيل ألم آدم منذ فعلة ابنه.
حينما قال قابيل لهابيل "قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ... "لم يعِ قابيل، بل وأغلب أمتنا- معنى جملة: "إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ"، هذه القاعدة الربانية التي تقول إنك إذا أردت أن تعرف هل يتقبل الله أعمالك أم لا؟ انظر إلى نفسك هل تتقيه أم لا؟
قال عليّ بن أبي طالب: كنا نجتهد في رمضان، فإذا انتهى أصابنا الهم "هل تُقبِّل أم لا؟ "إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ...". التقوى هي هدف رمضان. "يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة:183).
ينادي الله تبارك وتعالى يوم القيامة: جعلتُ نسبًا وجعلتم نسبًا: قلت: "إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..." (الحجرات:13)، وقلتم: فلان ابن فلان خير من فلان ابن فلان. فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي، أين المتقون؟
"وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله....".
ماذا تفعل التقوى؟
1. تغفر الذنوب: "يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ويُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ..." (الأنفال:29).
2. تُدخلك الجنة: "تِلْكَ الجَنَّةُ الَتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا..." (مريم:63).
3. تيسر لك أمورك في الحياة: "ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا.." (الطلاق:4).
4. تفرج الهموم وتوسع الرزق: "ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ..." (الطلاق:2).
5. تنزل على البلاد الفقيرة بركات من السماء: "ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ..." (الأعراف: 96).
هل البشرية الآن قابيل أم هابيل؟
لماذا كانت أول جريمة يسجلها القرآن القتل وليس الزنا مثلاً أو شرب الخمر؟
كان خوف الملائكة من القتل: "قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..." (البقرة:30). فبعد كل هذه الحضارة، هل البشرية الآن أقرب لقابيل أم هابيل؟
يا من تربون أبناءكم على العنف، يا من تروجون أفلام العنف اتقوا الله! "لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ" (المائدة: 28).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي. قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده إلي ليقتلني، قال: كن كابن آدم" ثم قرأ النبي قول الله تعالى: "لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ...".
عثمان بن عفان.. هابيل الصحابة:
حدثت فتنة في عهد سيدنا عثمان - هذا الرجل الذي يقول عنه النبي: "...رجل تستحي منه الملائكة"- مَن أراقوا دمه لم يستحوا!
أرسل سيدنا عثمان خطابًا لكل المدن يقول لهم:
"لأفرشن لكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، والله لا تطلبوا مني شيئًا أحققه لكم ليس فيه معصية لله إلا أجبتكم فيه"، فلم يردوا، فأرسل لهم خطابًا آخر قبيل الحج:
"من كانت له عندي مظلمة فليأتني أعطيه الحق مني أو من عمالي (أولادي) وعلي أجرته ذهابًا وعودة، ولا يخشى الشحناء، فهي ليست من طبعي"، فلم يردوا عليه.
وتحرك 3 الآف ليحاصروا المدينة، ودخل عليه عليّ بن أبي طالب والزبير وطلحة وقالوا له:
"يا أمير المؤمنين، إما أن تلبس لبس الإحرام وتخرج محرمًا فلا يقتلوك، وإما أن تخرج من المدينة إلى الشام، وإما أن تأمرنا فنقاتلهم".
فقال لهم: "لا والله، أما لبس الإحرام فلا ينفع فهم يروني من الضلال فلن يتورعوا أن يقتلوني، وأما الخروج إلى الشام، أأهرب وأترك مدينة رسول الله؟! (أرأيتم أنه ليس بضعيف ولا سلبي؟) وأما القتل، فقال: أنا أقاتل في مدينة رسول الله؟! والله إن الفتنة دائرة دائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، فليمت عثمان ولا يُراق دمٌ في المدينة.
فقال عليّ: لقد فعلت جهدي.
فدخل عليه سيدنا أبو هريرة ممسكًا لسيفه، فقال عثمان: لما جئت؟
قال: جئت لأنصرك.
فقال سيدنا عثمان: اغمد سيفك، أتحب أن يُقتل الناس في مدينة رسول الله؟!
قال: لا.
قال: أعلمت أنه من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعًا؟!
قال أبو هريرة: وأنت؟
قال عثمان: وأنا يكفيني قول ابن آدم "لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ..."، ثم قال عثمان لأبي هريرة: لقد قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عثمان لك الجنة على المصيبة تصيبك"، فقال عثمان: وها أنا أصبر.
قبيل اغتياله- كان الذين يريدون الفتنة قد حاصروا سيدنا عثمان في بيته- رأى في المنام الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: جوَّعوك يا عثمان؟ أشعروك بالجوع يا عثمان؟
قال عثمان: نعم يا رسول الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: عطَّشوك يا عثمان؟ أشعروك بالعطش يا عثمان؟
قال عثمان: نعم يا رسول الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حاصروك يا عثمان؟
قال عثمان: نعم يا رسول الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تصبر الليلة وتصوم غدًا وتبيت عندنا غدًا وتفطر عندي أنا وأبي بكر وعمر؟
فقال عثمان: نعم يا رسول الله! فاستيقظ يضحك. وكان له خادم فقال له: كنت قد شددتُ أذنك من قبل، فأشدد أذني وشُدَّ عليها، فإن قصاص الدنيا أهون من قصاص الآخرة.
قالت له زوجته: سيدخلوا علينا البيت، أأخلع الحجاب لعلهم يستحوا حين يرون شعري ويخرجوا؟ فقال عثمان: والله لئن أُقَطّع قطعًا أهون عليّ من أن تُكشَف خصلة من شعرك. دخلوا عليه البيت، وقطعوه بالسيف وهو يقرأ من القرآن "فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ..." (البقرة:137).
لحظة القتل:
"فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ" (المائدة:30)
كيف استطاع أن يطوع نفسه لقتل أخيه؟ يقول النبي: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا. فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء. وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء. حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض. والآخر أسود مربادًا، كالكوز مجخيا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا...".
كيف جاءت له فكرة القتل؟ من الصيد ورؤية الحيوانات وهي تُقتل، ولكن الحيوانات لا تقتل من جنسها فلا يقتل الأسد أسدًا آخر.
جاء إبليس لقابيل، وجاء بدابة وحجر وظل يضربها بالحجر في رأسها حتى ماتت لكي يعلمه كيفية القتل، فأخذ قابيل الحجر وهجم على أخيه يضربه على رأسه حتى أدمت رأس هابيل فندم قابيل.
ماذا خسر قابيل؟ خسر آخرته، فكل من قُتلوا ظلمًا في ميزان سيئاته إلى يوم القيامة. فهو أول من قتل في البشرية، تخيلوا الذنوب!!
تخيلوا أنه يحمل وزر كل من مات في الحروب ظلمًا!!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك بأنه أول من سن القتل".
قتله ولم يدرِ ماذا يفعل بالجثة؟
لم يعلم الدفن حينئذ، فظل يبحث ماذا يفعل بالجثة؛
لأن معه أول جثة في البشرية. وبدأت رائحة الجثة تتغير، وبدأت الوحوش والطيور تحوم.
أتعلمون أن من رحمة الله أن الجثة يتغير شكلها ورائحتها ولونها بعد الموت؟ لأنه إذا لم تكن تتغير، كان الناس ستحتفظ بها كنوع من الوفاء وكنا سنحيا حياة كلها كآبة. علمنا الله من الغراب الدفن لكي ننسى ونعيش حياتنا ونقابل موتانا في الجنة بإذن الله. يقول الله: "فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا ويْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ" (المائدة:31). ولكنه ليس ندم توبة، بل ندم عجز لأنه لا يعلم نهايته، قتل أخيه ولا يعلم ماذا يجب أن يفعل بالجثة.
ولكن النهاية ليست تعيسة بل هي سعيدة، لنرفع من روحنا المعنوية؛ هذه القصة أتت لنا بأول شهيد؛ هابيل، وعوّض الله على آدم وحواء بابن آخر الذي نحن من ذريته اسمه شيت، والذي أصبح نبيًّا، وأيضًا جاء إدريس عليه السلام من ذرية آدم. فرزق الله آدم شهيدًا ونبيين.
"واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إدْرِيسَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) ورَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ..." (مريم: 56-58).
"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا..." (المائدة:32).
لنقرأ الآيات ونستمع جيدًا للمعاني بها:
"واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا ولَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ (28) إنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإثْمِي وإثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا ويْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ولَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)"
تعليقات: 0
إرسال تعليق